ماتت زنبقة مجدليا

ـ1ـ
يَوْمَ زُرْت لُبْنانَ،
اسْتَقْبَلَتْني زَنْبَقَةُ مِجْدَلَيّا في رَوْضِها الْجَميلِ.
صاحَتْ مِنَ الدَّاخِلِ: يا أَهْلا..
فَحَمَلَني صَوْتُها إِلَى جَنَّةِ الأَهْلِ فِي لُبْنان،
إِلى أحضَانِ مَنْ غَنَّيْتُهُمْ بِشِعْرِي،
وَسَئِمْتُ ابْتِعادِي عَنْهُمْ.
هَمَسَتْ الطيورُ فِي أُذُني: مَنْ هَذِهِ؟
فَقُلْتُ: لُورانْس..
أُخْتُ فُولَمِين زَوْجَة ابْنِ عَمِّي الْياس.
إِنَّها فَتاةٌ رَائِعَة..
إنَّها زَنْبَقَةُ مِجْدَلَيَّا.
ـ2ـ
عام 1969، دَخَلْتُ عَالَـمَ التَّمْثِيلِ والإِخْرَاجِ..
كانَ كُلّ شَيْءٍ يَسِيرِ كَدَقَّاتِ السَّاعَةِ،
ما عَدَا افْتِقَارِي إِلَى بَطَلَةٍ مُثَقَّفَةٍ
تَمَثِّلُ أَمامِي دَوْرَ زَوْجَتي الْمُسْتَرْجِلَة
التي تَضْرِبُني، وَتَضْرِبُنِي، وَتَضْرِبُني
طِوالَ مُدَّةِ ظُهُورِها على الْمَسْرَحِ.
إنَّه دَوْرٌ صَعْبٌ لِلْغايَة..
وَبَناتُ قَرْيَتي لَمْ يُمَثّلْنَ مِنْ قَبْلُ.
فَمِنْ أَيْنَ لِي بِها؟
وَبَعْدَ تَفْكِيرٍ طَويلٍ،
وَقَعَ اخْتِياري عَلَى أَجْملِ زَهَراتِ مِجْدَلَيَّا..
على لُورانْس ساسين الْكَحِيل.
ـ3ـ
كانَتْ صَبِيَّةً صَغِيرَةً،
تَحْلُمُ النَّسَائِمُ بِمُداعَبَةِ شَعْرِها الأَسْودِ الطّويل.
كانتْ جميلةً وَناعِمَةً كبراعِمِ الزَّهرِ
الَّتي لَـمْ تَقْطِفْها يَدُ إِنْسانٍ..
إِنَّها أصلُحُ ما تَكونُ لِتْمْثِيلِ دَوْرِ مَلاكٍ
أَرْسَلَهُ اللَّه لإِنْقَاذِ بَنِي الْبَشَرِ.
فَهَل سَتَنْجَحُ بِدَوْرِ امْرَأَةٍ مُسْتَرْجِلَة؟
هَذَا ما كانَ يُؤَرِّقُنِي،
وَيَقُضّ مَضْجَعِي.
وَلَكِنْ، كما يقولُ المثَلُ الشَّعْبِيُّ:
عِنْدَ الإِمْتِحان تُكْرَمُ لُورانس أَوْ تُهان.
ـ4ـ
.. وَما أَنْ اَطَلَّتْ "بِشُوْبَقِِها"،
وَصَاحَتْ بِصَوْتِها الأُنْثَوِيّ الْجَميل:
إِمْشِ قُدَّامي إِلَى الْبَيْت.
حَتَّى اشْرَأَبَّتْ مِئاتُ الأَعْناقِ،
وَصَفَّقَتْ آلافُ الأَيْدي.
لَقَد سَحَرت الجُمْهُورَ،
وَوَزَّعَتْ عَلَيْهِ بَدَلَ "الإِسْتِرْجالِ" أُنُوثَةً.
وَبَدَلَ "الْقُوَّةِ" حَناناً..
وَأَحْسَسْتُ أَنْ ضَرَبات "شُوبَقِها"
قَد انْقَلَبَتْ أزهاراًً..
وَأَنَّ دورَ "المَرْأَةِ الْمسْتَرْجِلَةِ" الَّذِي بَرَعَتْ بِهِ
حَدَّ التَّقَمُّص،
ما كانَتْ لِتَنْجَحَ بِهِ،
لَوْلا حَنانُها الْغامِرُ،
وَشَخْصِيَّتُها الفَذَّةُ،
وَثَقافَتُها الْعالِيَةُ،
وَإِطْلالَتُها الْمُفْرِحَةُ.
كَانَتَ وَحِيدَةً فِي كُلِّ شَيءٍ..
حتَّى بِقَدَاسَتِها!
ـ5ـ
أَرادَتْ لُورانس أَنْ تَسيرَ عَلَى خُطى السيِّد،
أَنْ تَتَعَمَّدَ في نَهْرِ الأُرْدُن..
أَنْ تَغْسُلَ رِجْلَيْهَا بِمِياهِهِ الْمُقَدَّسَةِ.
فَرَافَقَتْ "إذاعَة صَوْت الْمَحَبَّة" فِي رِحْلَتِها..
الْمُؤمِنُونَ يُرَتِّلُونَ بِخُشُوعٍ،
والْحَافِلاتُ تَرْقُصُ طَرَباً..
الرِّحْلَةُ جَمِيلَةٌ،
والْقَيِّمُونَ عَلَيْها يُوزِّعونَ الْفَرَحَ
كَما يُوزَّعُ البُونْبون في الأَعْياد.
وَحْده الحَرّ كانَ شديداً،
يُعَكِّرُ بِلَهِيبِه صَفَاوَةَ الرِّحْلَة..
الشّمسُ تُرْسِلُ أَشِّعَتَّها الْمُحْرِقَةَ،
والْهَواءُ يَلْفَحُ بِها أَبْدانَ الْمُسَافرينَ.
عندئِذٍ بَدَأَتْ زَنْبَقَةُ مجدلَيَّا بِالذُّبُولِ..
وَلَيَسْ أَمامَهَا من مُنْقِذٍ سِوَى نَهْر القَداسَةِ..
ـ6ـ
وَضَعَتْ قَدَمَيْها فِي الْماء..
انْتَعَشَتْ قَليلاً..
ابْتَسَمَتْ..
وَشَكَرَت الْفادي.
فَإِذَا بِصَوْتٍ عَظِيمٍ يُدَغْدِغُ مَسَامِعَها قائلاً:
هَذِه هِيَ ابْنَتِي الْحبيبةُ الَّتي بِها سُرِرْتُ.
لـم تُصَدِّق أُذُنَيْها..
فَتَطلَّعَتْ إِلى السَّماء،
فإِذَا بَجَوْقَةٍ من الْمَلائِكة تَرِفّ فَوْقَها..
ثِيابُها بَيْضَاء..
أَجْنِحَتُها بَيْضاء..
وابْتِساماتُها لُؤلؤيَّةٌ كَثُلوجِ جِبالِنا الشَّمّاء.
ما أَجْمَل الْمَلائِكَة، صاحَتْ لورانس..
وَمَدَّت يَدَيْها لأَقَرَبِهِم إِلَيْها،
فَإذا بِهِ يَحْمِلُها إلى غَيبُوبَةِ السَّعادَة.
ـ7ـ
هُناكَ تَراءَى لَها أَبُوها..
مِشيَتُهُ لْـمْ تتغَيَّر،
حَتَّى وَلا مَلامِحُهُ الْمِجْدِلاوِيَّةُ الْجَميلَة.
أَبي، تَمْتَمَتْ بِخَوْفٍ شَديدٍ..
فَابْتَسَمَ لَها وَقالَ: آنَ أَوانُ لِقائِنا يا ابْنَتِي..
جَنَّتُنا السَّماوِيَّةُ جَميلَةٌ جِدّاً،
كُلُّ ما فيها سَيَسْحرُكِ..
إِنَّها السَّعادةُ الدَّائِمَةُ.
تَعالَيْ لأُعَرِّفَكِ بِقِدِّيسيها،
بِمَلائِكَتِها،
بِأَهْلِها،
وَبِأَقارِبِكِ..
هَذَا هُوَ عَمُّكِ وَجيه..
وَذاكَ ابْنُ عَمَّتِكِ ميشال عيسى
يَتَحَدَّثُ بِصَوْتٍ عالٍ مَعَ خالِكِ الياس وَابْنِهِ إدغار.
أَمّا تِلْكَ الْمَرْأَةُ الْفاضِلَةُ فَهِيَ جَدَّتُكِ فولَمين.
كَفَى.. كَفَى.. يا أَبِي،
صاحَتْ لُورانْس،
أَكادُ أَضْعَفُ أَمامَكَ، وَأَنْسى أُمّي..
هَلْ نَسيتَ أُمّي يا أَبِي؟..
إنَّها رَفيقَتِي، وَحَبيبتِي،
وَتاجُ رَأْسي..
ماذَا سَيَحْدُثُ لَها إِنْ أَنا انْضَمَمْتُ إِلَيْكَ؟
قَلْبُها رَقيقٌ، وَدَمْعَتُها سَخِيَّةٌ..
"أَمَلين"، يا أَبي، سَتُذْبَحُ مِنَ الْوَريدِ إلى الْوَريدِ
إِنْ أَنا فارَقْتُها.
ثُمّ لا تَنْسَ أَنَّنِي بَعيدَةٌ عَنِ الْبَيْتِ،
وَمَوْتِي فِي الْغُرْبَةِ سَيُذِيقُها مُرَّ الْعَلْقَمِ.
إِرْحَمْ أُمّي يا أَبِي..
وَحَاوَلَتْ أَنْ تَسْحَبَ يَدَيْها
مِنْ بَيْن يَدَيّ الْمَلاك.
وَأَنْ تَعُودَ إلى عالَمِها الأرْضِيّ..
وَلَكِنَّ الْمَلاكَ رَماها في حِضْنِ أَبيها
فَعانَقَتْهُ بِحَرارَةٍ وَهِي تَبْكي.
ـ8ـ
ماتَتْ زَنْبَقَةُ مِجْدَلَيَّا..
ماتَتْ لُورانْس..
فَجَنَّتْ إِذاعةُ "صَوْت الْمَحَبّة"،
وَجَنَّ الرِّفاقُ وَالرَّفيقاتُ،
وَجَنَّتْ مِياهُ نَهْرِ الأُرْدُن.
كُلُّ السَّاعاتِ تَوَقَّفَتْ دَقَّاتُها،
ما عَدَا دَقَّات قَلْبِ الْوَطَن..
مَنْ سَيَنْقُلُ الْخَبَرَ إِلَيْه؟
مَنْ سَيَتَجَرَّأُ وَيُخْبِرُ "أَملين" الأُمّ؟!
ـ9ـ
الصَّمْتُ يُخيِّمُ عَلَى مِجْدَلَيّا،
رُؤوسُ أَبْنائِها مُخَفَّضَةٌ كَأَعْلامِ الدُّوَلِ.
وَحْدها "أَملين" لَـمْ تَعْرِفْ بَعْد..
جُثَّةُ الزَّنْبَقَةِ حَطَّتْ فِي مَطارِ بَيْروت
وَقَاماتُ الْمِجْدَلاوِيِّيَن أَيْضاً..
كُلُّهُمْ زَحَفُوا لاسْتِقْبالِها..
لِرَفْعِها فَوْقَ الْهاماتِ..
لِتَقْبيلِ جَبينِها الطَّاهِرِ،
وَلِتَكْحيلِ أَعْيُنِهِم بِطَلَّتِها الْبَهِيّة..
وَ"أَمَلين" لَـمْ تَعْرِفْ بَعْد!
طُرُقاتُ مِجْدَلَيّا مُضَاءَةٌ بِالشُّمُوعِ..
لَيْلُها انْقَلَبَ نَهاراً،
فَالْعَرُوسُ آتِيَةٌ مِنَ الأُرْدُن
وَكُلُّ عَذَارى الْقَرْيَةِ أَضَأْنَ مَصابيحَهُنَّ.
وَمَعَ ذَلِكَ لَـمْ يَتَجَرَّأْ أَحَدٌ وَيُخْبِر "أَمَلين".
يا رِجالَ الْقَرْيَةِ تَشَجَّعوا..
يا حُكَماءَ الْقَرْيَةِ تَشاوَرُوا
وَيا أُمَّهاتِ الْقَرْيَةِ خَفِّفْنَ لَوْعَةَ الأُمِّ الثَّكْلى.
ها هِيَ جُثَّةُ لُورانْس تَدْخُلُ الْقَرْيَةَ..
ها هِيَ أُخْتُها فِيفْيان تَتَلاشى..
وها هِيَ أُمُّها "أَمَلين" تَقَعُ عَلَى الأرْضِ
مُضَرَّجَةً بِدُموعِها.
ـ10ـ
مالبُورْن الَّتي عَرَفَتْها بَكَتْ..
البَيْتُ ضاقَ بِالْمُعَزّينَ
وَفُولَمين أُخْتُها يَلُفُّها الذُّهولُ والذُّبولُ.
سيدْنِي أَيْضاً تَفَجَّعَتْ..
بَيْتُ عَمِّها يُوسِف،
وَدَيْرُ مار شَرْبِل وَحَّدَهُما الْحُزْنُ
وَتَبَلَّّلا بِدُموعِ الأَحْبابِ.
كُلُّهم أَحَبُّوها يَوْمَ زارَتْهُمْ في غُرْبَتِهِمْ،
وَكُلّهم بَكُوا شَبابَها الفَتّانَ.
حَتّى كَنَدا اصْطَكَّتْ رِكْبَتَاها
عِنْدَما اصْطَكَّتْ رُكَبُ أُخْتِها ماري
وَأَخَوَيْها فيليب وطوني وباقي الأَهْل..
إِنَّها خَسارَةٌ لا تُعَوَّضُ..
فَهَلْ تُعَوَّضُ خَسارَةُ مِجْدَلَيّا
لِزَنْبَقَتِها الرَّائِعَةِ الْجَميلة؟
وَهَل يُعَوَّضُ رَحيلُ مَنْ عَلَّمَتِ الأَجْيالَ الْحَرْفَ
وَزَرَعَتْ في نُفُوسِهِمْ حُبَّ اللَّـهِ وَالْوَطَن ؟
لورانْس الْكَحيلْ لَـمْ تَمُتْ..
إِنَّها تَعيشُ في قُلوبِنا..
فَطُوبَى لِمَنْ أَصْبَحَت الْقُلُوبُ جَنَّتَها،
فَلَسَوْفَ تَحْتَضِنُها الدَّيْمُومَةُ،
وَيُرافِقُها الْخُلُود.
**