أمثالك قلائل.. فلتبكك القصيدة

ـ1ـ
حَجَرٌ آخَر
مِنْ عِمارَةِ شِعْرِنا الْمَهْجَرِيِّ
اقْتَلَعَتْهُ رِياحُ الْغُرْبَةِ،
وَتَلاعَبَتْ بِهِ كَوُرَيْقَةٍ خَريفِيَّةِ الْمَلامِحِ
وَالنَّظَراتِ.
سُنْبُلَةٌ أُخْرَى
اقْتُطِفَتْ مِنْ حُقُولِنا الْمُثْقَلَةِ بِالتَّعَبِ،
دُونَ أَنْ يَرِفَّ لِلْمَوْتِ جَفْنٌ.
ـ2ـ
رَامِز عُبَيْد الشَّاعِرُ،
عَرَفْتُهُ،
اخْتَبَرْتُهُ،
صاحَبْتُهُ،
وَأَحْبَبْتُهُ.
تَواضُعُهُ: احْتِرَامٌ وَتَأَدُّبٌ..
إِنْسانِيَّتُهُ: انْدِفَاعٌ وَخِدْمَةٌ..
وَشاعِرِيَّتُهُ خَلاّقَةٌ كَأَخْلاقِهِ،
وَمُمَجَّدَةٌ كَالْبَيْتِ الَّذِي أَعْطاهُ الاسْمَ.
ـ3ـ
شاعِرٌ.. إِبْنُ شاعِرٍ
أَميرٌ.. إِبْنُ أَميرٍ
فَيا خَسارَةَ الْقَوافِي بِرَحيلِ النَّسْرِ الْمُهاجِرِ..
وَيا خَسارَةَ الأَحْلامِ الْمُعَتَّقَةِ في جِرارِ غُرْبَتِها..
كُلُّ شَيْءٍ تَوَقَّفَ عَنِ الدَّوَرانِ،
ما عَدَا الْحُزْن.
ـ4ـ
وَقَفْتُ بِظِلِّهِ في عِدَّةِ أُمْسِيَاتٍ شِعْرِيَّة..
فَكانَ الْمُحَلِّقَ،
وَكانَ الْمُبْدِعَ،
وَكانَ النَّدَّ الْمِثالِيَّ.
لَـمْ يَقُلْ أَنا..
لَـمْ يَتَبَجَّحْ..
رَغْـمَ اعْتِدادِهِ بِشِعْرِهِ.
لَـمْ يَغْتَبْ أَحَداً..
رَغْـمَ رَوَاجِ عاداتِ الاغْتِيابِ
وَالطَّعْنِ
وَالثَّرْثَرَةِ
في جالِيَتِنا..
كانَ مَتْرِيتيّاً حَقّاً..
وَلُبْنانِيّاً بِامْتِيازٍ..
فَهَنيئاً لِلْوَطَنِ بِرُفاتِهِ.
ـ5ـ
زُرْتُهُ عِدَّةَ مَرّاتٍ..
مالَحْتُهُ عِدّةَ مَرّاتٍ..
وَطالَبْتُهُ بِنَشْرِ ديوانِ أَبيهِ (الْمَلِكَ) عِدّةَ مَرّاتٍ.
وَكانَ يُتَمْتِمُ: (بَعدْ بَكّير)..
أَجَلْ.. (بَعدْ بَكّير)..
فَرَحيلُكَ جاءَ مُبَكِّراً جِدّاً يا رامِز..
رَحيلُكَ اسْتَبَقَ أَحْلامَكَ وَأَحْلامَنا.
حَرَمَنا مِنْ حُضورِكَ الْمُفْرِحِ،
مِنْ رَنَّةِ ضِحْكَتِكَ الْمُمَوْسَقَةِ،
الطَّالِعَةِ مِنْ صَدْرٍ ما عَرَفَ إلاّ الدِّفْءَ،
وَمِنْ إِشْعاعِ عَيْنَيْكَ الْبَريئَتَيْنِ
كَعُيونِ الْمَلائِكَة.
ـ6ـ
آهٍ..
كَمْ أَنا حَزِينٌ عَلَيْكَ..
وَكَمْ أَنا عاجِزٌ عَنِ التَّعْبيرِ عَنْ حُزْنِي.
حُزْنِي مُحيطٌ..
وَأَنا قَطْرَةٌ.
حُزْنِي إِعْصَارٌ..
وَأَنا مَرْكَبٌ صَغيرٌ لا يَقْوَى عَلَى الإبْحارِ.
حُزْنِي مَرْثاةٌ عُبَيْدِيَّةٌ..
أَنَّى لي امْتِلاك قَوافِيها.
ـ7ـ
أَتَيْتَ الْغُرْبَةَ طِفْلاً،
وَلَـمْ تَنْسَ أَنَّكَ شاعِرٌ.
وَرِثْتَ الْقافِيَةَ عَنْ أَبيكَ وَأَجْدادِكَ،
فَأَثْلَجْتَ صُدورَهُمْ بِإبْداعِكَ.
عايَشْتَ اللُّغَةَ الإنْكِليزَيَّةَ مُنْذُ صِغَرِكَ،
وَلَكِنَّ الْتِحامَكَ بِلُغَتِكَ الأُمِّ،
بِلَهْجَتِكَ الْمُحَبَّبَةِ،
وَبِتُراثِكَ الْعَظيمِ..
كانَ أَقْوَى مِنَ الالْتِحامِ،
وَأَسْمَى مِنَ الْفَرْنَجَةِ.
لَـمْ تَكُنْ إِلاَّ كَما أَرادَكَ الْوَطَنُ.
وَلَـمْ تُفْرِحْ قَلْبَ أَحَدٍ كَما أَفْرَحْتَ قَلْبَهُ،
فَاسْتَحَقَّ قامَتَكَ وَالتُّراب.
ـ8ـ
لِماذا يَنْطَفِىءُ الشُّعَراءُ الْمَهْجَرِيّونَ كَالشُّموعِ،
دونَ أَنْ تَرْتَجَّ الأَرْضُ لِرَحيلِهِمْ؟!
لِماذا يُغادِرُنا الكِبارُ،
دونَ أَنْ نَشْعُرَ بِهِمْ،
وَكَأَنَّهُم نَسائِـمُ رَبيعِيَّةٌ عادَتْ إِلى مُرْسَلِها؟!
لِماذا نَحْنُ هامِشِيّونَ،
سَرابِيّونَ،
لا يَلْتَفِتُ إِلَيْنا أَحَدٌ،
وَلا يَسْمَعُ وَقْعَ أَقْدامِنا أَحَدٌ؟
لِماذا؟.. لِماذا؟..
أَسْئِلَةٌ تَتَطايَرُ كَمَناديلِ الْمُوَدِّعينَ ساعاتِ الرَّحيلِ،
وَلَكِنَّها أَكْبَرُ وَأَبْعَدُ وَأَوْسَعُ مِنْ أَجْوِبَتِنا.
ـ9ـ
لَقَدْ فَشِلْنا في حِمايَةِ بَعْضِنا الْبَعْض مِنَ الانْدِثارِ..
تَلَهَّيْنا بِالْحَرْتَقاتِ الصَّغيرَةِ،
وَتَغاضَيْنا عَنْ احْتِضَانِ الْمَواسِمِ،
وَجْنْيِ الثِّـمَار.
مَواسِمُنا كَثيرَةٌ،
وَالْحَصّادونَ مُتَناحِرُونَ!
عَطاءاتُنا تَتَباهى على كُلِّ الْعَطاءاتِ،
وَنَحْنُ نَسْخَرُ مِنْها،
وَلا نَتْرُكُ باباً
إِلاّ وَنوصِدُهُ بِوَجْهِها.
ـ10ـ
كانَ بَيْنَنا الْعُبَيْدِيّان
يَعْقوب
وَميشال.
كانَ بَيْنَنا زَيْنُ الْحَسَن،
مِخائيل قُرْبان،
مُصْطَفى أَيُّوب، وَغَيْرُهُم.
وَكانَ بَيْنَنا نَعيم خوري
وَرامِز عُبَيْد.
فَهَلْ مِنْ ثَرْوَةٍ أَدَبِيَّةٍ أَكْبَر مِنْ هَذِه الثَّرْوَة؟..
وَهَلْ مِنْ غِنىً يُضاهِي غِنَى الرَّاضي
بِما مَنَّ اللَّـهُ عَلَيْه؟
ـ11ـ
فُقَراءُ نَحْنُ..
يَتَناتَشُنا الْخُبْثُ وَالإدِّعاءُ وَالتَّطاوُلُ.
جُبَناءُ نَحْن..
نَتَّهِمُ الآخَرينَ زُوراً،
نَخْتَلِقُ الأَعْذارَ،
وَنَتَلَطّى خَلْفَ أَظافِرِنا الْحَبْلَى بِأَوْساخِها.
أَرْقامٌ هَشَّةٌ نَحْنُ،
نَتَراقَصُ فَوْقَ أَوْراقِ يانَصيبٍ،
لا يَشْتَريها سِوى الْقَدَر.
ـ12ـ
يَرْحَلُ عَنْ مَنْفانا الْكِبارُ،
وَيَبْقَى الأَلَـمُ.
تَرْحَلُ الْكَلِمَةُ،
وَتَبْقى صَفْحَتُنا تَئِنُّ مِنْ عُقْمِها.
تَرْحَلُ أَنْتَ يا رامِز،
وَنَبْقى نَحْنُ بِانْتِظارِ قَدَرٍ يُنْزِلُنا
عَنْ ظَهْرِ الْغُرْبَةِ.
أَمْثالُكَ قَلائِلُ..
فَلْتَبْكِكَ الْقَصيدَةُ.
**